في حارةٍ شعبيةٍ بحلب، وُلد صوتٌ لم يكن يعلم أنه سيصبح شاهدًا على جراح الوطن، إنه أحمد الأمير، المطرب السوري الذي شتّتته الحرب، وأطفأته الغربة، بعدما كان صوته يعكس أفراح الشام ومواويل الوجدان.

مقال له علاقة: غادة عبد الرازق تتألق في فيلم “أحمد وأحمد” مع أحمد السقا وأحمد فهمي في مغامرة سينمائية مثيرة
البداية من صوت الأذان
وُلد أحمد الأمير في العاشر من سبتمبر عام 1974، في حيٍّ شعبيٍّ متواضع بمدينة حلب، نشأ في كنف أسرة فقيرة تعيش في بيتٍ بالإيجار، حيث كان يعمل الجميع لتأمين الحد الأدنى من المعيشة.
مقال مقترح: هيفاء وهبي تخطف الأنظار بإطلالة جريئة باللون الأسود وتثير تفاعل منصات التواصل الاجتماعي
منذ طفولته، اكتشف في نفسه ميلاً فطريًا للطرب، وكان يحفظ الأغاني ويقلّد المطربين، دون أن يتلقّى تعليمًا أكاديميًا في الموسيقى.
وذات يوم، وهو في الصف الرابع، طلب معلمه من التلاميذ أن يؤذّن أحدهم لصلاة الظهر، فرفع أحمد يده، لكنه لم يؤذّن، بل غنّى، انبهر المعلم بصوته، وقال له: “صوتك غير طبيعي، يجب أن تتعلّم موسيقى”
وهنا وُلد الحلم.
مع صبري مدلل.. سرًّا
ذات يوم، وفي محلٍّ لبيع المنظفات كان يرافق فيه والده، بدأ يدندن لنفسه، ناداه رجلٌ يرتدي “كربوشًا أحمر”، طالبًا منه أن يغنّي بصوت مرتفع، فغنّى، فقال له الرجل: “تعال إليّ كل يوم، سأعلّمك شيئًا”
لم يكن هذا الرجل سوى عملاق الفن والإنشاد، الشيخ صبري مدلل، الذي بدأ يعلّمه أصول المقامات والغناء والإيقاع، دون علم والده الذي كان يرفض فكرة الفن من الأساس، كانت اللقاءات تتمّ سرًا، في طريق المدرسة.
من خشونة الحديد إلى نعومة الموال
بعد وفاة والده، اضطر الأمير إلى ترك المدرسة والعمل في ورشة حدادة مع أخيه، بينما عملت والدته في مستشفى لمساعدة الأسرة، ومع قسوة الظروف، ظل صوت الطرب حيًا داخله، وواصل التعلّم متى استطاع، بل وبدأ يشارك في أفراحٍ شعبية في “الكَلاسة”، وهناك طلب منه أحد الجيران أن يغني في حفل زفاف ابنه.
تردّد، وخاف من الميكروفون، لكنه غنّى موالًا وأغنية، فحمله مطرب الحفل على كتفيه، وسط القبلات والتشجيع، كانت تلك أول شرارة حقيقية لمسيرته الفنية.
“الواسطة” تهزم الموهبة
تقدّم أحمد بعد سنوات إلى مهرجان الأغنية التراثية في حلب، وكان أستاذه، رئيس لجنة التحكيم، قد رشّحه بنفسه، ورغم أدائه القوي بموشّح “حيّر الألباب”، تم رفضه.
اتصل بأستاذه مستفسرًا، فجاءه الجواب الصادم: “كنتَ تستحق النجاح، لكن الواسطة غلّبتك… نجحت راقصات ومغنيات النوادي الليلية، وأنت لا”
كانت تلك لحظة انكسار، قرّر الاعتزال، وابتعد عن الغناء، وعمل في الكورال خلف منشدين ومطربين، ليتعلّم ويستمرّ بعيدًا عن الأضواء.
حين غنّت الحرب… وانطفأ الصوت
مع اندلاع الحرب السورية، أُصيب أحمد إثر برميلٍ متفجّر، وخرج من سوريا إلى تركيا جريحًا، ثم هاجر وحده إلى هولندا، بينما بقيت أسرته في تركيا، في الغربة، خفت صوته، لكنه لم يمت.
يحمل في صدره تاريخًا من الغناء المنسيّ، والحفلات الشعبية، والموشّحات المغمورة، والكورال الذي أنضج موهبته، اليوم، لا يملك سوى الذكريات، وصوتًا لا يزال حيًا في داخله، ينتظر من يعيده للحياة.
شهادة فنية لزمنٍ مكسور
قصة أحمد الأمير ليست سيرة فرد، بل صورة عن جيلٍ بأكمله، جيلٍ لم يكن ينقصه الصوت، بل المنصّة، جيل حمل في حنجرته “مقامات اليُتم”، وفي خطاه “إيقاعات الحرب”، وفي هجرته “ترجيع الحنين”.
ما زال صوته، حين يُسمع، يُدهش من يسمعه لأول مرة، فهل ينجح في استعادة ما أطفأته الحرب؟ أم يبقى صوته حبيس الصدر، لا يسمعه إلا المنفى؟
أحمد الأمير… صوتٌ لاجئ، لكنه لم يتسوّل يومًا التصفيق.
تعليقات