منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها قراءة رواية عمار علي حسن “ملحمة المطاريد”، التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، وجدت نفسي مشدودًا إليها، لا أستطيع الابتعاد عنها، فقد أحببتها منذ البداية، وعلى الرغم من انشغالاتي بين مهنة التدريس، والعمل في أرضي، وحياتي الأسرية والتزاماتها، كنت أختلس بعض الوقت لأستمتع بها بعيدًا عن صخب البيت وضجيج العمل، كان الشوق يدفعني للغوص في تفاصيلها، لأتطهر من قذارة الواقع وعفنه المتراكم في كل زواياه.
أدرك أن المبدع الحقيقي في عصرنا، عندما يعزف على قيثارته الفنية إبداعًا أصيلًا، تواجهه نواقيس مزعجة تحاول أن تغطي على عزفه النبيل، إلا أن الإبداع الحقيقي يظل كالذهب، مهما تراكم عليه الغبار، تظل قيمته وأصالته لا يقدرها إلا من يمتلك ذوقًا رفيعًا ورؤية عميقة لمواطن الجمال، وهذا ما وجدته في هذا العمل الروائي الفذ، حيث تتجلى جمالياته الفنية في العديد من عناصر الإبداع وتقنياته.
تتناول الرواية قصة الإنسان المصري على ضفاف النيل، وعلاقته بالأرض والبيئة والإنسان، مستعرضةً الصراع الدائم بين الإنسان والمكان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، من خلال عائلتين كبيرتين تتنافسان على الهيمنة والنفوذ، ومد جذورهما في أعماق المكان والزمان، مما يعرضهما لتصادم مستمر يدور بينهما.
تحتوي الرواية على الكثير من عناصر الإبداع الروائي، حيث جاءت لغة السرد والحوار عربية فصيحة، محملة بعناصر الجمال اللغوي، إذ تبرز فيها الصور والمجازات والعبارات المشحونة بالنفس المتوهجة، تعبر عن بيئة الرواية بحميمية رائعة، بينما ينمو الحوار بشكل منطقي ومدهش دون أي افتعال، ليصل إلى نتائج طبيعية تعكس مستويات الحوار لدى شخصيات الرواية، محافظةً على خصوصيتها الفكرية والثقافية والاجتماعية، فتجد لغة الصوفي ذات الإيحاء والرمز، ولغة الوجيه صاحب الأملاك والعزوة، ولغة الحكمة ورجاحة العقل، ولغة الموتور الذي يلهث وراء نداء الشر، مما يجعل شخصيات الرواية ليست مجرد شخصيات ورقية، بل شخصيات حية من لحم ودم.
أما السرد، فيأتي محللاً لأغوار النفس ودقائق الشعور، كاشفًا عن نوازعها ورغباتها، مصورًا البيئة الزمانية والمكانية في عبارات تحمل الكثير من الإيحاء والكثافة الدلالية، مشحونة بوهج العاطفة وخفق المشاعر من خلال مفردات وأساليب مستلهمة من بيئة الرواية، مما جعلنا نشعر بأن شخصيات الرواية تتجلى لنا فاعلة ومؤثرة في مجريات الأحداث، نابضة بالحياة، حيث يختفي الكاتب خلف الأحداث، مما يجعلنا ننسى أننا نقرأ رواية، بل نشهد حركة أحداث حقيقية.
بالنسبة للحبكة والعقدة، تتعدد الحبكات في الرواية نتيجة امتدادها عبر الزمان والمكان وتناولها أجيالًا متعددة، وتظهر الحبكة بشكل طبيعي نتيجة لتشابك الأحداث، لتصل إلى قمة التأزم، ثم تنفك العقدة بفنية عالية وخبرة بنواميس الحياة، مما يغذي شوق المتلقي ويوقظ مشاعره وأفكاره، ليجد نفسه في النهاية أمام نافذة تطل على الحياة بكل تقلباتها، حيث يرى المصائر والأقدار والضعف الإنساني، وكيف يقاوم الإنسان صروف الدهر العاتية.
وأخيرًا، تأتي أهمية هذه الرواية في عدة نقاط، أولها توثيقها لتاريخ الإنسان المصري ومسيرته الحضارية على ضفاف النيل عبر حقبة طويلة من الزمن، كما أنها تبث في اللغة روح التجديد والإبداع، مما يجعلها قادرة على مجابهة المتغيرات، وأخيرًا، تعرض صورة للصراع بين الخير والشر، مما يجعلنا ندرك حقيقة جلية بأن الحق يحتاج إلى قوة تحمي وجوده، وأن علينا أن نظل حذرين من الشر، فهو لا يتوانى عن الانقضاض على الخير عند أول فرصة.
تلك كانت إطلالة مختصرة على هذا العمل الإبداعي، آمل أن أكون قد وفقت في تقديمه بشكل يليق بجماله.