خمسة وعشرون عامًا مرت بين مشهدين يعكسان مأساة غزة، كان الأول في سبتمبر 2000 حين ارتجف الطفل محمد الدرة خلف برميل إسمنتي بجوار والده، قبل أن تخترقه رصاصات الاحتلال، في مشهد وثقته كاميرات العالم وأصبح رمزًا بارزًا في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والثاني كان في أغسطس 2025، حين أطلق الطفل عبد الله أبو زرقة صرخته البريئة «أنا جعان»، ليكشف بضعف جسده وضيق أنفاسه عن صورة أخرى للقتل البطيء تحت حصار الجوع ونقص الدواء، مشهدان مختلفان في تفاصيلهما، متشابهان في رسالتهما: أطفال غزة هم ضحايا حرب لا تختار أعمارًا ولا أحلامًا، وهم الذين يكتبون تاريخ هذه الأرض بدمائهم ودموعهم
كان عمره 12 عامًا فقط، حين خرج مع والده جمال في ذلك اليوم من سبتمبر 2000، لم يكن يعلم أن لحظاته الأخيرة ستُسجل بكاميرا المصور الفرنسي تشارلز إندرلان، وتبقى في ذاكرة العالم إلى الأبد، حاول الأب أن يحمي ابنه، مد ذراعيه، أسند ظهره للحائط، لكن رصاص الاحتلال كان أسرع من كل شيء، سقط محمد بين ذراعي أبيه، ليصبح اسمه منذ ذلك اليوم رمزًا عالميًا للطفولة التي تُقتل بدم بارد، انتشرت صور استشهاده على شاشات العالم، وخرجت المظاهرات من الرباط إلى جاكرتا، ترفع صورته كأنها شهادة إدانة موثقة ضد الاحتلال، لكن مع مرور السنوات، ظل السؤال حاضرًا: كم طفلًا آخر يجب أن يُقتل حتى يتوقف نزيف غزة؟
بعد ربع قرن تقريبًا، لم تتوقف المأساة بل تبدلت أدواتها، من الرصاص إلى الحصار، ومن الدم إلى الجوع، في أغسطس 2025، ظهر الطفل عبد الله أبو زرقة (صاحب الـ5 أعوام) في مقطع مصور، جسده هزيل وصوته بالكاد يخرج: «أنا جعان»، كانت كلماته أقوى من أي خطابات سياسية، لأنها اختصرت مأساة الحصار الذي حوّل غزة إلى سجن كبير بلا غذاء ولا دواء، عانى عبد الله من سوء تغذية حاد وتدهور صحي خطير، وبعد مناشدات إنسانية، تم نقله للعلاج في تركيا، لكن جسده الصغير لم يصمد، وفارق الحياة تاركًا للعالم صرخة موجعة: «أنا جعان»، ولكن هذه لم تكن قصته وحده، فشقيقته حبيبة ما زالت تصارع المرض، تعاني من تضخم في الكبد وتسمم دم، لتصبح شاهدة أخرى على أن المأساة لم تتوقف برحيله
وبين محمد الذي مات برصاص الاحتلال، وعبد الله الذي مات من الجوع، هناك آلاف القصص غير الموثقة، أطفال يدفنون تحت ركام بيوتهم بعد قصف جوي، أطفال يموتون على أسرة المستشفيات بسبب نقص الدواء، وأطفال يكبرون أسرع من أعمارهم، يحملون على وجوههم آثار حرب لم يختاروها، لم يعرفوا المعنى الحقيقي للبراءة أو اللعب، بل عرفت لغة الحرب والحرمان منذ سنواتها الأولى، وهكذا يكتب أطفال غزة تاريخًا مختلفًا، تاريخًا بالدم والدموع، ليذكّر العالم كل يوم أن العدالة لا تزال غائبة، محمد الدرة قال قصته بدمه، وعبد الله أبو زرقة قالها بصوته: «أنا جعان»، كلاهما لم يطلب أكثر من حق بسيط: أن يعيش كأي طفل في هذا العالم، لكن الاحتلال والحصار حرماه من ذلك، فصار أحدهما رمزًا للدم، والآخر رمزًا للجوع، تبقى الرسالة واحدة: أطفال غزة ليسوا أرقامًا في نشرات الأخبار، بل وجوه بريئة تدفع ثمنًا فادحًا لصراع لا يرحمهم
منذ استشهاد محمد الدرة وحتى وفاة عبد الله أبو زرقة، ظل العالم يكتفي بالمشاهدة، صور تُبث، بيانات إدانة تُكتب، ومؤتمرات تعقد، لكن الأطفال في غزة ما زالوا يُحرمون من أبسط حقوقهم: الأمن، الغذاء، الدواء، والتعليم، قد تختلف الوسائل من رصاص إلى جوع، لكن النتيجة واحدة: أطفال غزة يواصلون كتابة تاريخ فلسطين بدمائهم ودموعهم، في انتظار عدالة قد تأتي أو لا تأتي
إقرأ أيضا: