يتوسط النص الشعري بين الرمزية والتقريرية، حيث دخلت القصيدة في العصر الحديث عوالم جديدة من التطور، سواء كان النص تقليديًا أو تجديديًا أو نثريًا كُتب بلغة الشعر، من خلال حلِّ الشعر وعَقد النثر، فإن كل ذلك يستعصي على التقييد ويتأبَّى على التقعيد، الدخول إليه هين، والخروج منه غير بَيِّن، كل نص على مثاله فريد من نوعه، بل كل سطر منه وكل كلمة من كلماته فريدة في سياقها، لا تكاد تلتقي ونظيراتها في نص آخر أو في سطر آخر من النص نفسه أحيانًا، حتى يتحقق الغموض المطلوب والدهشة اللذيذة، أما الإغراق في الغموض عبر استدعاء كثير من الرموز المتلاحقة بالنص، فيدخل النص في عوالم الطلاسم، ويتدحرج في مزاليق الغموض المنبهم، ولا يكفي للخروج من هذه التهمة أن ينجرف الشاعر بهذه الحجة إلى اللغة التقريرية الفاضحة للنص، والكاشفة له دون جهد أو إعمال ذهن، هنا يصبح النص كالمصفاة التي لا تكنز مادة لها، كلٌّ عنها مخاصم، لكن أصبح الغموض في القصيدة الحديثة، وفي الآونة الأخيرة، وخاصة في النثر المشعور أو الشعر المنثور، ديدبانًا وهدفًا عبر استعمال اللغة الانزياحية التي نهجت نهج الخروج عن المألوف، والحق أن نترك للشاعر حرية التفكير والكتابة، مع الحفاظ على ما يلزم فعله حسب كل نص، فهناك من النصوص ما لا يليق بها إلا الغموض، وهناك من النصوص ما تتشوق إلى التقرير اللغوي.
أما نص الشاعرة المعنون بـ(آخر عناقيد الحلم)، فهو عنوان له نصيب وافر من المزج بين الرمزية الكاشفة لا المنبهمة، والتقريرية المشِعّة بالصورة الشعرية الهادفة، وبه إشعاع مجازي، ويعد مدخلًا طبيعيًا لعوامل النص النثري، يكشف لنا النص عن محور مهم من محاور أدوات الإبداع عندها، وهو أن لها معجمًا لغويًا يسعفها حال الكتابة، ولا يعوزها شيء في هذا المجال، ومن المدهش لدى القارئ للنص أن يرى مشاهد الطبيعة تسيطر على جغرافية النص شكلًا ومضمونًا، وكأنها رأت أن عبقرية البوح عن هذا النص لا بد أن تكون من نافذة الطبيعة، انظر معي أيها القارئ الفهيم: قولها: “في بستان عبر الخريف ذات فقدان، تدلني الحياة من أعلى ذاكرة في الشجرة، لا لأن الشمس تأخرت.. بل لأن في داخلي شتاء، قال للريح.. لا تأخذيني قبل أن أقول وداعي للأغصان التي حملتني للشمس، فقط أحب أن أرفع رأسي للسماء كأني أحتضن غيمًا من حنين يشبه أبي، بقيت الكلمات التي لم تُقَل، وبقي صمت يشبه ليلًا يعترف بنجومه رغم العتمة”، فنرى أن لمفردات الطبيعة دورًا حيويًا في النص الشعري، من خلال نقل الأحاسيس وتجسيد الصورة وإثراء التجربة الشعرية، فمن المعلوم أن الطبيعة ليست مجرد خلفية في الشعر، بل هي عنصر فاعل يساهم في بناء القصيدة وإبراز أبعادها المختلفة، كما تساهم مفردات الطبيعة في خلق الصورة الشعرية المتخيلة في ذهن المتلقي، وكل ذلك يضفي الحيوية والعمق داخل النص الشعري، وهذا ما لمسناه عند الشاعرة.
من المعلوم أن للشاعر دورًا مهمًا في معالجة قضايا عصره: الاجتماعية، والسياسية، والوطنية، والنفسية التي يعيشها المجتمع، فالشاعر ليس مجرد مبدع فني فقط، بل هو أيضًا مرآة تعكس هموم وأحلام وقضايا عصره، ويحاول من خلال شعره أن يؤثر في واقعه، ويساهم في التغيير للأفضل بمداد إبداعه، وكذلك فعلت الأديبة حينما رصدت مأزومية المشهد الآني، وتوزع النفس الإنسانية بين الضياع والخلاص منه، وبين انحدار الأمل والسعي إلى رسم ملامحه، وبين اغتيال الجمال، وذلك بادٍ بقلمها خلف مرآة الرمز قائلة: “أنا امرأة تعلمت كيف تخبئ الجنازة في قعر ضحكتها..؟ وكيف تطعم الآخرين وهجها وتنام على حجر التعب كأنها طفلته، أنا صوت الضحكة الأخيرة في حنجرة أرملة تعلمت كيف تواسي العالم قبلة من بعيد؟ وكيف تعيد ترتيب كرامتها، كمن يصلح مئذنة داخلية هدمها قطف الانتظار، أنا آخر عنقود شهد على أن الوجع لا يميت.. بل ينضج، وأن الطعنات حين تترك أثرًا جميلًا على القشرة.. فهي تصلح أن تُهدى للغرباء.. كأنها بطاقة تعريف”.
من المعلوم أن الخيال عنصر أساسي في ابتكار الصورة الشعرية، حيث يتيح للشاعر بناء صور شعرية فنية ابتكارية تعبر عن أفكاره ومشاعره بشكل إبداعي مؤثر، خيال الشاعرة هنا منحها القدرة على تجاوز الواقع المحسوس، والذهاب إلى استكشاف عوالم جديدة، وتقديم رؤى مبتكرة للعالم المشاهد من حولها، خيالها المحلق ساعدها على تجسيد مشاعرها وأحاسيسها في صور شعرية ملموسة، مما جعل قصيدتها أكثر عمقًا وأشد تأثيرًا، لقد قدم لنا خيالها صورًا غير تقليدية، مما أضفى عنصر المفاجأة وجاذبية القارئ للنص، وحفَّه بالمتعة عبر خلق جوانب خفية في المعنى، وحررها من قيود الواقع، وأتاح لها استكشاف عوالم مختلفة تتجاوز حدود الزمان والمكان، ولو أردنا تطبيق ذلك من خلال نصها، لوجدناه محفلاً غنيًا بهذه المشاهد عبر إنتاج جملة من الصور الشعرية الخلّاقة التي ساهمت في استكشاف ما هو خفي من المعاني.
“تأخرت عن قطاف الدهشة، تعلمت كيف تخبئ الجنازة في قعر ضحكتها، تمرغت في رماد الأعوام، كأني أحتضن غيمًا من حنين يشبه أبي، أنا التي خبأت ضعفها في صندوق مذهب من الصبر وأغلقته بمفتاح من البلاغة، الأحلام التي بنيتها على طين الوقت كلها تسكنني ولو في الخيال، أنا المَدى.. المكان الذي يقف فيه الحزن ليستريح، ثم يبتسم”.
من المعلوم أن التضاد في النص الأدبي هو أسلوب بلاغي يعتمد على استخدام كلمات أو تراكيب ذات معانٍ متقابلة أو متناقضة لإضفاء تأثيرات فنية وجمالية عبر الخريطة النصية، يلعب التضاد داخل النصوص دورًا مهمًا في إثراء المعنى، وتعزيز الإيقاع، وإبراز التناقضات في الحياة أو المشاعر، مما يثير انتباه القارئ، ويثري تجربته الشعرية، وهذا ما نجده جليًا في هذه القصيدة، كما في قولها: ذكر الحياة والموت، “أنا الحبة الوحيدة التي لم تؤكل (لا لفساد.. بل لقداسة خفية)”، “تأخرت.. ربما.. لكن الذي يتأخر بحق، هو الذي يصل كاملًا”، وكذلك مفردتا الضحكة والبكاء تسودان النص، “أنا التي تضحك وتنسى، ثم تضحك ولا تنسى، أنا التي أحبت ولم تكتب، الاكتمال والنقص، أنا أزهر من جديد، لكني لم أذبل أيضًا”، نص باذخ كُتب بحرفية، والأديبة جعلت للنص في ضميرها خريطة ذهنية، حتى تنسجه منسجمًا مع كل محاورها النفسية والفلسفية والوجدانية، محافظة على البناء الدرامي الخفي الدائر بين المتناقضات والمتقابلات، بلغة شفيفة ومعانٍ سامية عفيفة، تحياتي لقلمك الماتع.