تُعتبر السِّينما وجبةً جاهزة، بينما الشِّعْر يُشبه وصفةً لطبخةٍ ألذّ، لكن كيف يتناسبان مع إرهاق الإنسان الوجودي؟

مقال له علاقة: اكتشف أبطال مسلسل مملكة الحرير ومواعيد عرضهم الرسمية بشكل شامل وجذاب
قد تؤثر السِينما في عقل الإنسان المرهق أكثر من الشِّعْر بتجليَّاته العصرية، فهي تُهدئ المنهَكين، فاقدي الطاقة، مسلوبِي الشغف، ذلك الإنسان الذي يحمل مسؤوليات أكبر من طموحاته وكيانه، ولذلك يضطر إلى خفض رأسه أمام أحلامه ليعبر من باب مسؤولياته،.
ربما لأن السِينما لا تطالبك بشيء، فهي جاهزة تمامًا لتقديم وليمة حسية مشبعة (صوت، صورة، موسيقى)، دراما تتناسب مع إيقاع الفهم الحيوي بداخلك، حيث تجلس على الأريكة، وتأتي إليك بجرعات من المعاني ملعقة ملعقة، والسّينما المحبوبة من الأغلبية غالبًا هي السّينما السلبية التي تمنحك كل شيء بينما تكون مستسلمًا تمامًا،.
ربما -أقول ربما- يكون الشِّعْر وصفة لطبخةٍ عظيمة، حيث يقدم لك جميع المكونات اللازمة من موسيقى واضحة وخفية، وصور خيالية جميلة، ومجازات لذيذة، ولغة مغايِرة، ثم يطلب منك أن تذهب إلى مطبخ عقلِك لتقوم بعملية الطهي كاملة، أي هو يطلب منك الاستمتاع بالطهي والمطبوخ، بالرحلة والوصول، مما يتطلب طاقة ذهنية إيجابية ليست بالقليلة، ويطلب منك أن تشارك معه التجربة لا أن تكون مجرد مشاهد، لا أن تستسلم،.
لكن بطل القصة الحقيقي هو ذلك المواطن الشقي الذي يعود إلى منزله في السادسة مساءً، مفروغ الطاقة، مسلوب الإيجابية، منهك الأعصاب، مطروح الجسد، بعد ساعات من العمل والمواصلات،.
هذا البطل مطالب منه أن يبذل طاقة ذهنية كبيرة لتأويل معاني الشِّعْر، مطالب منه أن يصعد بأقدام عقلِه سُلَّمًا شاهقًا، وهو في حالة صفريّة تمامًا، هذا البطل ليس مطالبًا ببذل مجهود الآن، هو فقط يريد أن ينسى،.
مقال له علاقة: احتفال بذكرى ميلاد وردة الجزائرية.. قصة فنانة خالدة في الذاكرة وتحدت الزمن
لذلك هو لا يملك رفاهية الاختيار بين الجميل والأجمل، لأنه غريزيًا سيختار الأسهل، فليس هذا وقت إرهاق العقل بتفكيرات وتعقيدات للوصول إلى معنى جميل عن طريق التخيّل، هو فقط يريد أن ينسى، يريد أن يريح عقلَه ساعتين فقط، حيث تقدم له السّينما هروبًا مثاليًا من سجن الواقع، لا يتطلب منه سوى الجلوس والمشاهدة مرتاحًا،.
بينما يطالبه الشِّعْر ببذل مجهود إضافي بعد يوم كامل من العمل الذهني والجسدي، لذلك لن يصمد دقيقة واحدة، هذا الرجل لا يملك حتى الطاقة لغسل وجهه،.
لذلك وصل إلى عامة الشعب الشِّعْر الذي لا يتطلب بذل أي مجهود لفهمه، وصل الشِّعْر الذي يجلسه أمام القصيدة، يضع أمامه طبقة المعاني جاهزة، يلقمه بالملعقة جملة جملة، لا يحتاج إلى إرهاق ذهنه، هو ذلك الشِّعْر الذي يشبهه حاليًا، شعر مرهق، مسلوب التفكير، مسلوب الطاقة، شعر سهل المضغ، بل هو شعر الزبادي، والزّبادي جيد جدًا على فكرة،.
لكن الشِّعْر كمشروع قراءة وتأمل عميق! هذه رفاهية يا صديقي، تتطلب شرطين؛ الوقت والجهد، وربما لأن الشعراء يمتلكون أدوات الفهم مسبقًا، حيث أصبحوا رافعي أثقال المعاني الفلسفية الثقيلة، فهم لا يشعرون بذلك التعب والمجهود الذهني الذي يقوم به الإنسان المرهق الذي يمارس هذه الرياضة اللغوية،.
في هذه المعركة يا صديقي ستفوز السّينما، ليست لأنها الأعظم، بل لأنها أكثر رحمةً بالإنسان الضعيف المنهك،.
وهذا يقودنا إلى السؤال الجدلي الأبدي؛ هل الشِّعْر لغة ملكية أم عامة؟ هل ينبغي تبسيطه ليناسب الجميع أم يجب أن يبقى في برجه العاجي؟
تعليقات