ناصر عبد السلام يتناول موضوع بطء وتباطؤ بأسلوب مميز وجذاب

أقف أمام ذلك التساؤل الشائع، وأنظر إلى إيقاعي الخاص.

ناصر عبد السلام يتناول موضوع بطء وتباطؤ بأسلوب مميز وجذاب
ناصر عبد السلام يتناول موضوع بطء وتباطؤ بأسلوب مميز وجذاب

لم أعتد البطء منذ طفولتي، وأحيانًا أقول لنفسي: إنني المثال الأول في حياتي لإثبات أن “خلق الإنسان من عجلٍ”، فكل حياتي هكذا، في العمل، وفي شؤون البيت، وفي المشي، وفي تناول الطعام، وفي لعب كرة القدم حين أفرط في الحركة واللعب بإيقاع سريع، وكذلك في المشاوير والسفر، حتى وصلت إلى الحب

تقول لي حبيبتي: إهدأ، والتقط أنفاسك، وتلذذ بنعمة البطء

هنا أتذكر رواية «البطء» لميلان كونديرا في الفصل الأول، لينطلق منها إلى عوالمه الأخرى المتشعبة، فهو يتساءل أين اختفت متعة البطء من عالم أُصيب بشيطان السرعة، فيقول: “لماذا اختفت متعة البطء؟ آه، أين هم متسكعو الزمن الغابر؟، أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، هؤلاء المتشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟، هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية والحقول والغابات والطبيعة؟، يُعرّف أحد الأمثال الشعبية التشيكية كسلهم مجازًا قائلاً: إنهم يتأملون نوافذ الله، ومن يتأمل نوافذ الله لا يسأم أبداً بل يكون سعيداً، في الوقت الذي أصبح فيه الاسترخاء في عالمنا بطالة، وهذا أمر آخر تمامًا: إذ يبقى المرء الذي لا يجد ما يفعله في حالة إحباط وملل وبحث دائم عن الحركة التي يفتقدها

والبطء الذي يدعو إليه كونديرا إنما يقصد به التباطؤ المتعمد للقيام بالأشياء بالسرعة المناسبة.

أستعيد كلمات حبيبتي وكلمات كونديرا، وأنا أعلم أنني لم أتلذذ بالبطء في شيءٍ كما كتابة الشِعر وسماع الأغاني، فقد أظل أستمع إلى أغنية واحدة أو أغنيتين لمدة أسبوع مثلًا، وأقصد في البداية أن أستمع إليها بنصف ذهن، أو أن أجعل كل تركيزي في موسيقاها فقط، مع الالتفات لبعض كلماتها، يشربها وجداني على مهل، وفي كل مرة أزيد من جرعة التركيز والانتشاء بالكلمات، ثم صوت المغني/ المغنية، ثم الكلمات مع الموسيقى، ثم أكتب الكلمات وأغنيها بنفسي، إلى أن أتشرّب حالتها كاملة، حرفًا فحرفًا، ونغمةً فنغمة، وأود لو أستعمل ذلك البطء في نواحي كثيرة كانت أو قليلة في حياتي.

هنالك الكثيرون تكلموا عن البطء كفكرة وكحالة ضرورية للحفاظ على الروح في ظل عسر السرعة الذي نعيش فيه، كميلان كونديرا وكارل أونوريه في كتابه «في مديح البطء» حين يقول: “من الحماقة أن تكون بطيئًا دائمًا، وهذا ليس ما نصبو إليه، التباطؤ يعني أن تضبط إيقاع حياتك، أن تُقرِّر بنفسك مدى سرعتك في كل ظرف، إذا أردت اليوم الإسراع فأسرع، وإن قرّرت غدًا الإبطاء فأبطئ، ما نناضل من أجله هو حقنا في تحديد الوتيرة التي تناسبنا”

فالسرعة مطلوبة على كل حال، كإنقاذ صديق ما في ورطة، أو الحضور بشكل سريعٍ حين تحتاجك الحبيبة، والكثير من الأشياء تتطلب السرعة، كما أنها أيضًا تتطلب البطء.

ومن أجمل ما قرأت في الشِعر عن البطء ما كتبه الصديق والشاعر عبد الرحمن مقلد في كتابه «نشيد للحفاظ على البطء» وهو يضع أمامي وجهة نظره من خلال حديثه عن السلحفاة، المعروفة بالبطء، فيقول: “لها الزمانُ كإبرة التريكو، تخيطُ بها رؤاها، تصنعُ الأحداثَ للأفعالِ، تنسجُ من بقايا دهشتين “بلوفراً”، لتقي خلايا رأسها بردَ الشتاءِ وسرعةَ العربات، تحفظُ للطبيعةِ رتمَها العاديَّ، رتمَ البطءِ إذن للسلحفاةِ ضرورةٌ، لتُعَلِمَ، الصبرَ، المحبَ، يظلُّ ينتظرُ الحبيبةَ واضعاً ساقاً على أخرى، ويحملُ وردةً بيضاءَ، يكفي للبطيئة أنه يكفي، لتقضي نزهةً تتأمل الحيواتِ عند الشطِ، تلقمُ ما يتاحُ، تشمُ رائحةً لتُشعِرَ منخَريْهَا أنها وثابةٌ وجميلةٌ ونشيطةٌ، لتكون راضيةً، فتُضِحِكَ نفسها، إذن للسلحفاةِ ضرورةٌ، لتُعَلِمَ، الصبرَ، المحبَ، يظلُّ ينتظرُ الحبيبةَ واضعاً ساقاً على أخرى، ويحملُ وردةً بيضاءَ”