“دَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ!”.. عبارة تعكس فلسفة ثورية في عالم الطب الحديث، حين يصبح العدو حليفًا ويستحيل السمُّ القاتل إلى شفاءٍ مُعجِز.
في خضم هذا التحوُّل العلمي المذهل، نجد أنفسنا اليوم على أعتاب عالم مُدهش، حيث تختبئ في أنياب الأفاعي وذيل العقارب كنوز دوائية لا تُقدَّر بثمن.
تحت عنوان “السموم الطبيعية من داء إلى دواء.. سموم اليوم أدوية الغد”، قدم عبدالوهاب خليل- الدكتور بكلية العلوم جامعة بني سويف، عضو اللجنة الوطنية للسموم بأكاديمية البحث العلمي، استشاري صناعة الأمصال وأبحاث السموم، سلسلة من المقالات العلمية عبر حسابه على منصة فيسبوك تكشف لنا أسرار هذا المستحضر البروتيني المُعقَّد، وتحدثنا عن رحلة السُمِّ من كابوس مميت إلى بصيص شافي، فكان لنا معه هذا الحوار.
في البداية، حدثني عن هدفك من نشر هذه السلسلة من المقالات العلمية على المنصات الاجتماعية.
الهدف من سلسلة مقالاتي “السموم الطبيعية: من داء إلى دواء – سموم اليوم أدوية الغد” هو نشر الوعي العلمي حول الفوائد الطبية الكامنة في السموم الحيوانية، والتي ارتبطت في أذهان الناس بالضرر والخطر فقط، أسعى من خلال هذه السلسلة إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة وبيان كيف تحوّلت بعض السموم إلى أدوية فعالة لعلاج أمراض مزمنة ومستعصية
كما تهدف السلسلة إلى لفت نظر الباحثين في مصر بأهمية هذا المجال البحثي ودوره الحيوي في تطوير أدوية جديدة، إضافة إلى تحفيز الباحثين والطلاب على الاهتمام بالبيوتكنولوجيا والسموم الطبيعية ومحاولة البحث واستخراج أدوية منها.
من أهم السموم التي أفردت لها أحد مقالاتك العلمية هي سموم العقارب والثعابين، ووصفتها بأغلى المواد البيولوجية، هل حدثتنا عن قيمتها السوقية والسبب في ارتفاع ثمنها؟
القيمة السوقية لسموم العقارب والثعابين تُعد من أغلى المواد البيولوجية في العالم.
فعلى سبيل المثال:
سعر سم العقرب الأسود (Androctonus australis) قد يصل إلى 10,000 – 39,000 دولار أمريكي للجرام الواحد.
سعر سم الكوبرا أو الأفعى السامة يتراوح بين 200 و 4,000 دولار للجرام حسب نوع السم ونقائه.
ويرجع هذا الارتفاع الكبير في الأسعار إلى:
ندرة السم وكميات الإنتاج المحدودة.
صعوبة الاستخراج والتجميع، حيث يتطلب الأمر آلاف اللدغات لاستخراج جرامات قليلة.
القيمة الطبية العالية، إذ تُستخدم هذه السموم في إنتاج أدوية، مضادات أورام، مسكنات ألم أقوى من المورفين، ومضادات للجلطات.
لذلك يتم الاعتماد على تقنيات متقدمة لتحليل المكونات البروتينية والبيبتيدية وتطويرها دوائيًا.
كيف يتم استخراج هذه السموم وتحويلها من سم ناقع إلى دواء معالج؟
يتم استخراج السم يدويًا أو كهربائيًا من العقارب والثعابين بطريقة دقيقة ومحترفة، يُجمع السم في ظروف معقمة، ثم يُجفف بالتجميد (Lyophilization) ليحفظ مكوناته، في معامل الأبحاث، يُستخدم التحليل البروتيني والفصل الكروماتوجرافي لتحديد المكونات النشطة، تُجرى اختبارات خلوية وحيوانية لتقييم التأثيرات البيولوجية، تُطوّر المركبات الواعدة عن طريق ما يسمي بالتحوير الجزيئي والتجارب السريرية حتى نصل إلى المرحلة الدوائية.
تحويل السم إلى دواء يتم عبر:
1. فصل المركبات النشطة من السم الخام.
2. تحليل تأثيرها البيولوجي بدقة.
3. تعديلها كيميائيًا لتقليل السمية وزيادة الفعالية.
4. اختبارها معمليًا، ثم إكلينيكيًا حتى تصل إلى صورة دواء آمن وفعال.
ماهي أهم الأمراض التي من الممكن أن تعالجها هذه السموم؟
على المستوى المعملي، وحتى الآن أثبتت السموم تأثيرات بيولوجية دقيقة يمكن تسخيرها في علاج بعض الأمراض من بينها:
– أمراض السرطان (مثل سرطان الدماغ والبنكرياس والبروستاتا): بعض سموم العقارب تُظهر انتقائية في مهاجمة الخلايا السرطانية
– الألم المزمن: فسموم العناكب والعقارب تحتوي على بيبتيدات تُثبط إشارات الألم
– أمراض القلب والأوعية الدموية: بعض السموم تؤثر على ضغط الدم وتوسع الأوعية الدموية
– الجلطات: فهناك بروتينات معينة في سموم الثعابين تمنع تخثر الدم أو تذيب الجلطات
– أمراض المناعة الذاتية مثل التصلب المتعدد.
هل هناك تحديات تواجه الاستفادة من هذه السموم في مجال الأدوية؟
هناك العديد من التحديات لعل أبرزها:
-قلة الاستثمارات والتمويل البحثي في هذا المجال الواعد.
– نقص في عدد المعامل البحثية والتقنية اللازمة لفصل وتحليل السموم على المستوى الجزيئي.
– محدودية التعاون بين المراكز البحثية والصناعة الدوائية.
– صعوبات في ترخيص الأدوية البيولوجية المستخلصة من السموم بسبب الإجراءات الصارمة.
– عدم وجود قوانين واضحة لتنظيم جمع السموم وتسويقها في بعض الدول.
هل تم بالفعل استخدام هذه السموم في صناعة الأدوية في مصر أم مازالت تلك الأبحاث حبيسة الأدراج؟
حتى الآن، معظم الأبحاث المصرية حول السموم الحيوانية لا تزال في المرحلة المعملية ولم تدخل طور التصنيع الدوائي بشكل واسع، ومع ذلك، فمصر من الدول الرائدة في إنتاج مضادات السموم (الامصال العلاجية) (Antivenoms)، من خلال الصرح الوطني العملاق وهو فاكسيرا (VACSERA)، لكن استخدام السموم كمصدر للعلاج لا يزال قيد الاختبارات المعملية، ويحتاج إلى دعم مؤسسي واستثماري أكبر حتى يمكن الانتقال للمراحل السريرية وتصنيع الدواء.
في ختام الحوار، ما هي أهم التوصيات التي توصي بها بناء على خبرتك لتحقيق الاستفادة القصوى من السموم الحيوانية في تصنيع الدواء ولكي تحتفظ مصر بصدارة الدول في هذا المجال؟
أهم التوصيات لتحقيق الاستفادة القصوى يمكن أن نلخصها في عدة نقاط أساسية منها:
– إنشاء مراكز متخصصة لأبحاث السموم الطبيعية وتطبيقاتها الطبية.
– تحفيز الاستثمار في البيوتكنولوجيا المتعلقة بالسموم، عبر شراكات بين الجامعات والصناعة.
– تطوير خريطة وطنية لتوزيع الأنواع السامة للاستفادة منها بحثيًا.
– تدريب كوادر علمية شابة في السموم الطبية، البيولوجيا الجزيئية، وتطوير الدواء.
– إدراج هذا المجال ضمن أولويات البحث العلمي القومي.
-التواصل مع الجهات الدولية لتبادل الخبرات وتمويل المشاريع، خاصة منظمات مثل WHO وUNDP وHorizon Europe.
لا يسعنا إلا أن نقول أنه كما تُحوِّلُ دودةُ القزِّ الحريرَ الخامَّ إلى نسيجٍ ثمين، يُحوِّلُ العِلمُ الواعي سُمومَ الطبيعةِ الغاضبةِ إلى شفاءٍ للإنسان، حوارُنا مع د. عبدالوهاب خليل لم يكن مجرد سردٍ لأرقامٍ مذهلةٍ (كالجرام من سُمِّ العقرب الذي يفوقُ ثمنُه الذهبَ بعشراتِ الآلاف!)، ولا تسليطًا للضوءِ على جزيئاتٍ بروتينيةٍ معجزةٍ تُحارِبُ السرطانَ والألمَ المزمن.
لقد كان نداءً وطنيًّا صادقًا لاستثمارِ هذه الثروةِ الهائلة وتحدِّيًا لتحريرِ الأبحاثِ المصريةِ الواعدةِ من أدراجِ المعاملِ إلى غزو سوق صناعة وتطوير الأدوية الحيوية.
شاركنا برأيك: هل كنت تعلم أن:
من السموم الناقعات دواء؟